فصل: قال ابن الجوزي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الثعلبي:

{يَحْلِفُونَ بالله مَا قَالُواْ}
قال ابن عباس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسًا في ظل شجرة فقال: إنه سيأتيكم إنسان ينظر اليكم بعينيّ شيطان، إذا جاء فلا تكلّموه، فلم يلبثوا أن طلع رجل أزرق فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «علام تشتمني أنت وأصحابك؟» فانطلق الرجل فجاء بأصحابه، فحلفوا بالله ماقالوا، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقال الضحاك: خرج المنافقون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك، وكانوا إذا خلا بعضهم ببعض سبّوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وطعنوا في الدين، فنقل ماقالوا حذيفة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال النبي: «يا أهل النفاق ما هذا الذي بلغني عنكم؟» فحلفوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما قالوا بشيء من ذلك، فأنزل الله تعالى هذه الآية إكذابًا لهم.
وقال الكلبي: نزلت في الجلاس بن سويد بن الصامت لأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب ذات يوم بتبوك وذكر المنافقين فسمّاهم رجسًا وعابهم، فقال الجلاس: والله إن كان محمد صادقًا فيما يقول فنحن شر من الحمير فسمعه عامر بن قيس، فقال: أجل والله إن محمدًا لصادق مصدق وأنتم شر من الحمير.
فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أتاه عامر بن قيس فأخبره بما قال الجلاس، فقال الجلاّس: كَذِب يا رسول الله عليّ، ما قلتُ شيئًا من ذلك، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحلفا عند المنبر بعد العصر، فحلف بالله الذي لا إله إلاّ هو ما قاله، وإنه كذب عليّ عامر، ثم قام عامر فحلف بالله الذي لا إله إلاّ هو لقد قاله وما كذبت عليه، ثم رفع عامر بيديه إلى السماء فقال: اللهم أنزل على نبيك الصادق منا المصدّق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون: آمين، فنزل جبرئيل على النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يتفرقا بهذه الآية حتى بلغ {فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْرًا لَّهُمْ} فقام الجلاس، فقال: يارسول الله أسمع الله قد عرض عليّ التوبة، صدق عامر بن قيس في ذلك، لقد قلته وأنا أستغفر الله وأتوب إليه، فقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك منه ثم تاب فحسن توبته.
قال قتادة: ذُكر لنا أن رجلين اقتتلا: رجلا من جهينة، ورجلًا من غفار، وكانت جهينة حلفاء الأنصار، وظفر الغفاري على الجهيني، فنادى عبد الله بن أُبي: أيّها الأوس انصروا أخاكم فوالله ما مثلنا ومثل محمد إلاّ كما قال القائل: سمّن كلبك يأكلك.
ثم قال: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعزّ منها الأذلّ، فسعى بها رجل من المسلمين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل صلى الله عليه وسلم إليه، فجعل يحلف بالله ما قال، فأنزل الله عز وجل: {يحلفون بالله ما قالوا وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الكفر وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ}.
قال مجاهد: هم المنافقون بنقل المؤمن الذي يقول لنحن شر من الحمير لكي لا يفشيه عليه.
قال السدي: قالوا إذا قدمنا المدينة عقدنا على رأس عبد الله بن أُبي تاجًا يباهي به [...] إليه. وقال الكلبي: هم خمسة عشر رجلًا منهم عبد الله بن أُبي، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح، وطعمة بن أُبيرق والجلاس بن سويد وعامر بن النعمان وأبو الاحوص، همّوا بقتل النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك فأخبر جبرائيل بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل: إنهم من قريش هموا في قتل النبي صلى الله عليه وسلم فمنعه الله عز وجل.
جابر عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنه في هذه الآية قال: هَمَّ رجل من قريش يقال له الاسود بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم {وَمَا نقموا} منه، ما أنكروا منه ولا (ينقمون) {إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ الله وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِه} (ويقال: إنّ القتيل) مولى الجلاس قُتل، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بديته اثني عشر ألفا فاستغنى، وقال الكلبي: كانوا قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم في ضنك من عيشهم، لايركبون الخيل ولايحوزون الغنيمة، فلمّا قدم النبي صلى الله عليه وسلم استغنوا بالغنائم، وهذا مثل مشهور: اتّقِ شر من أحسنت إليه.
ثم قال الله عز وجل: {فَإِن يَتُوبُواْ} من نفاقهم وكفرهم {يَكُ خَيْرًا لَّهُمْ وَإِن يَتَوَلَّوْا} يعرضوا عن الإيمان {يُعَذِّبْهُمُ الله عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدنيا} بالقتل والخزي {والآخرة} بالنار {وَمَا لَهُمْ فِي الأرض مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ}. اهـ.

.قال الماوردي:

قوله عز وجل: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُواْ}
فيهم ثلاثة أقاويل:
أحدها: أنه الجلاس بن سويد بن الصامت، قال: إن كان ما جاء به محمد حقًا فنحن شر من الحمير، ثم حلف أنه ما قال، وهذا قول عروة ومجاهد وابن إسحاق.
والثاني: أنه عبد الله بن أبي بن سلول.
قال: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، قاله قتادة.
والثالث: أنهم جماعة من المنافقين قالوا ذلك، قاله الحسن.
{وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ} يعني ما أنكروه مما قدمنا ذكره تحقيقًا لتكذيبهم فيما أنكروه وقيل بل هو قولهم إن محمدًا ليس بنبي.
{وَكَفَرُواْ بَعْدَ إسلامهم} يحتمل وجهين:
أحدهما: كفروا بقلوبهم بعد أن آمنوا بأفواههم.
والثاني: جرى عليهم حكم الكفر بعد أن جرى عليهم حكم الإيمان.
{وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُواْ} فيه ثلاثة أقاويل:
أحدها: أن المنافقين هموا بقتل الذي أنكر عليهم، قاله مجاهد.
والثاني: أنهم هموا بما قالوه {لَئِن رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينةِ ليُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنهَا الأَذَلَّ} وهذا قول قتادة.
والثالث: أنهم هموا بقتل النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا مروي عن مجاهد أيضًا وقيل إنه كان ذلك في غزوة تبوك. اهـ.

.قال ابن عطية:

قوله: {يحلفون بالله ما قالوا} الآية.
هذه الآية نزلت في الجلاس بن سويد بن الصامت، وذلك كأنه كان يأتي من قباء ومعه ابن امرأته عمير بن سعد فيما قال ابن إسحاق، وقال عروة اسمه مصعب، وقال غيره وهما على حمارين.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد سمى قومًا ممن اتهمهم بالنفاق، وقال إنهم رجس، فقال الجلاس للذي كان يسير معه: والله ما هؤلاء الذين سمى محمد إلا كبراؤنا وسادتنا، ولئن كان ما يقول محمد حقًا لنحن شر من حمرنا هذه فقال له ربيبة أو الرجل الآخر؟ والله إنه لحق، وإنك لشر من حمارك، ثم خشي الرجل من أن يلحقه في دينه درك، فخرج وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقصة فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم في الجلاس فقرره فحلف بالله ما قال، فنزلت هذه الآية، والإشارة بـ {كلمة الكفر} إلى قوله: إن كان ما يقول محمد حقًا فنحن شر من الحمر، إن التكذيب في قوة هذا الكلام، قال مجاهد وكان الجلاس لما قال له صاحبه إني سأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقولك هم بقتله، ثم لم يفعل عجزًا عن ذلك فإلى هذا هي الإشارة بقوله: {وهموا بما لم ينالوا}، وقال قتادة بن دعامة: نزلت هذه الآية في عبد الله بن أبي ابن سلول، وذلك أن سنان بن وبرة الأنصاري والجهجاه الغفاري كسع أحدهما رجل الآخر في غزوة المريسيع، فثاروا، فصاح جهجاه بالأنصار وصاح سنان بالمهاجرين، فثار الناس فهدن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عبد الله بن أبي ابن سلول: ما أرى هؤلاء إلا قد تداعوا علينا، ما مثلنا ومثلهم إلا كما قال الأول: سمن كلبك يأكلك، ولئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فوقفه فحلف أنه لم يقل ذلك، فنزلت الآية مكذبة له، والإشارة بـ {كلمة الكفر} إلى تمثيله: سمن كلبك يأكلك، قال قتادة والإشارة بـ {هموا} إلى قوله لئن رجعنا إلى المدينة، وقال الحسن هم المنافقون من إظهار الشرك ومكابرة النبي صلى الله عليه وسلم بما لم ينالوا، وقال تعالى: {بعد إسلامهم} ولم يقل بعد إيمانهم لأن ذلك لم يتجاوز ألسنتهم، وقوله تعالى: {وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله}، معناه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنفذ لعبد الله بن أبي ابن سلول دية كانت قد تعطلت له، ذكر عكرمة أنها كانت اثني عشر ألفًا، وقيل بل كانت للجلاس.
قال القاضي أبو محمد: وهذا بحسب الخلاف المتقدم فيمن نزلت الآية من أولها، وتقدم اختلاف القراء في {نقموا} في سورة الأعراف، وقرأها أبو حيوة وابن أبي عبلة بكسر القاف، وهي لغة، وقوله: {إلا أن أغناهم الله} استثناء من غير الأول كما قال النابغة:
ولاعيب فيهم غير أن سيوفهم ** بهن فلول من قراع الكتائب

فكأن الكلام وما نقموا إلا ما حقه أن يشكر، وقال مجاهد في قوله: {وهموا بما لم ينالوا} إنها نزلت في قوم من قريش أرادوا قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال القاضي أبو محمد: وهذا لا يناسب الآية، وقالت فرقة إن الجلاس هو الذي هم بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا يشبه الآية إلا أنه غير قوي السند، وحكى الزجّاج أن اثني عشر من المنافقين هموا بذلك فأطلع الله عليهم، وذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم في إغنائهم من حيث كثرت أموالهم من الغنائم، فرسول الله صلى الله عليه وسلم سبب في ذلك وعلى هذا الحد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للأنصار «كنتم عالة فأغناكم الله بي»، ثم فتح عز وجل لهم باب التوبة رفقًا بهم ولطفًا في قوله: {فإن يتوبوا يك خيرًا لهم}.
وروي أن الجلاس تاب من النفاق فقال إن الله قد ترك لي باب التوبة فاعترف وأخلص، وحسنت توبته، والعذاب الأليم اللاحق بهم في الدنيا هو المقت والخوف والهجنة عند المؤمنين. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {يحلفون بالله ما قالوا}
في سبب نزولها ثلاثة أقوال:
أحدها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر المنافقين فعابهم؛ فقال الجُلاس بن سويد: إن كان ما يقول على إخواننا حقًا، لنحن شرٌّ من الحمير، فقال عامر بن قيس: والله إنه لصادق، ولأنتم شرٌّ من الحمير؛ وأخبر رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فأتى الجلاسُ فقال: ما قلت شيئًا، فحلفا عند المنبر، فنزلت هذه الآية، قاله أبو صالح عن ابن عباس، وذهب إلى نحوه الحسن، ومجاهد، وابن سيرين.
والثاني: أن عبد الله بن أُبيٍّ قال: والله لئن رجعنا إلى المدينة، ليُخرجن الأعزُّ منها الأذل، فسمعه رجل من المسلمين، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسل إليه، فجعل يحلف بالله ما قال، فنزلت هذه الآية، قاله قتادة.
والثالث: أن المنافقين كانوا إذا خَلَوْا، سبُّوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وطعنوا في الدين؛ فنقل حذيفة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض ذلك، فحلفوا ما قالوا شيئًا، فنزلت هذه الآية، قاله الضحاك.
فأما كلمة الكفر، فهي سبُّهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطعنهم في الدين.
وفي سبب قوله: {وهموا بمالم ينالوا} أربعة أقوال:
أحدها: أنها نزلت في ابن أُبيّ حين قال: لئن رجعنا إلى المدينة، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال قتادة.
والثاني: أنها نزلت فيهم حين همُّوا بقتل رسول الله، رواه مجاهد عن ابن عباس، قال: والذي همَّ رجل يقال له: الأسود.
وقال مقاتل: هم خمسة عشر رجلًا، هَمُّوا بقتله ليلة العقبة.
والثالث: أنه لما قال بعض المنافقين: إن كان ما يقول محمد حقًا، فنحن شرٌّ من الحمير؛ وقال له رجل من المؤمنين: لأنتم شرٌّ من الحمير، همَّ المنافق بقتله؛ فذلك قوله: {وهموا بمالم ينالوا} هذا قول مجاهد.
والرابع: أنهم قالوا في غزوة تبوك: إذا قدمنا المدينة، عقدنا على رأس عبد الله بن أُبيّ تاجًا نباهي به رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فلم ينالوا ما همُّوا به.
قوله تعالى: {وما نقموا إلا أن أغناهم الله} قال ابن قتيبة: أي: ليس ينقمون شيئًا، ولا يتعرفون من الله إلا الصنع، ومثله قول الشاعر:
مَا نَقَمَ النَّاسُ مِنْ أُمَيَّة إلاَّ ** أَنَّهُمْ يَحْلُمونَ إِنْ غَضِبُوا

وأنَّهم سَادَةُ المُلُوْكِ وَلاَ ** تَصْلُحُ إلاّ عَلَيْهِمُ العَرَبُ

وهذا ليس مما يُنقم، وإنما أراد أن الناس لا ينقمون عليهم شيئًا، وكقول النابغة:
ولا عَيْبَ فِيْهِم غَيْرَ أَنَّ سُيوفَهم ** بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الكَتَائِبِ

أي: ليس فيهم عيب.
قال ابن عباس: كانوا قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة في ضَنْك من معاشهم، فلما قدم عليهم، غنموا، وصارت لهم الأموال.
فعلى هذا، يكون الكلام عامًّا.
وقال قتادة: هذا في عبد الله بن أُبيّ.
وقال عروة: هو الجلاس بن سويد، قُتل له مولى، فأمر له رسول الله صلى الله عليه وسلم بديته، فاستغنى؛ فلما نزلت: {فإن يتوبوا يك خيرًا لهم} قال الجلاس: أنا أتوب إلى الله.
قوله تعالى: {وإن يتولَّوا} أي: يعرضوا عن الإيمان.
قال ابن عباس: كما تولَّى عبد الله بن أُبّي، {يعذبْهم الله عذابًا أليمًا في الدنيا} بالقتل، وفي الآخرة بالنار. اهـ.